الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
(بسم الله الرحمن الرحيم) استهلت هذه السنة وقد استقر الركاب الشريف النبوي بالمدينة النبوية المطهرة مرجعه من حجة الوداع، وقد وقعت في هذه السنة أمور عظام من أعظمها خطباً وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولكنه عليه السلام نقله الله عز وجل من هذه الدار الفانية إلى النعيم الأبدي في محلة عالية رفيعة، ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى كما قال تعالى: ( وروينا من طريق جيد أن عمر بن الخطاب حين نزلت هذه الآية بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان، وكأنه استشعر وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقد أشار عليه السلام إلى ذلك فيما رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقف عند جمرة العقبة وقال لنا: ((خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا)) وقدمنا ما رواه الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: نزلت هذه السورة وهكذا قال عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما: لعمر بن الخطاب حين سأله عن تفسير هذه السورة بمحضر كثير من الصحابة ليريهم فضل ابن عبَّاس وتقدمه وعلمه، حين لامه بعضهم على تقديمه وإجلاسه له مع مشايخ بدر، فقال: ((إنه من حيث تعلمون)) ثم سألهم وابن عبَّاس حاضر عن تفسير هذه السورة فقالوا: أمرنا إذا فتح لنا أن نذكر الله ونحمده ونستغفره. فقال: ما تقول يا ابن عبَّاس؟ فقال: هو أجل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نعي إليه. فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تعلم. وقد ذكرنا في تفسير هذه السورة ما يدل على قول ابن عبَّاس من وجوه، وإن كان لا ينافي ما فسر به الصحابة رضي الله عنهم. وكذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما حج بنسائه قال: ((إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر)) تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقد رواه أبو داود في سننه من وجه آخر جيد. والمقصود: أن النفوس استشعرت بوفاته عليه السلام في هذه السنة، ونحن نذكر ذلك ونورد ما روي فيما يتعلق به من الأحاديث والآثار، وبالله المستعان. ولنقدم على ذلك ما ذكره الأئمة محمد بن إسحاق بن يسار، وأبو جعفر بن جرير، وأبو بكر البيهقي في هذا الموضع قبل الوفاة من تعداد حججه، وغزواته، وسراياه، وكتبه، ورسله إلى الملوك، فلنذكر ذلك ملخصاً مختصراً، ثم نتبعه بالوفاة. ففي الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة الوداع، ولم يحج بعدها. قال أبو إسحاق: وواحدة بمكة، كذا قال أبو إسحاق السبيعي. وقد قال زيد بن الحباب عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حج ثلاث حجات: حجتين قبل أن يهاجر، وواحدة بعد ما هاجر معها عمرة، وساق ستاً وثلاثين بدنة، وجاء علي بتمامها من اليمن. (ج/ص:5 /235) وقد قدمنا عن غير واحد من الصحابة منهم أنس بن مالك في الصحيحين أنه عليه السلام اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والعمرة التي مع حجة الوداع. وأما الغزوات: فروى البخاري عن أبي عاصم النَّبيّل، عن يزيد ابن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة تسع غزوات يؤمِّره علينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وفي الصحيحين عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن زيد بن سلمة قال: غزوت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة على أسامة بن زيد. وفي صحيح البخاري من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال: غزا رسول الله خمس عشرة غزوة. وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا تسع عشرة غزوة، وشهد معه منها سبع عشرة، أولها: العشير، أو العسير. وروى مسلم عن أحمد بن حنبل، عن معتمر، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ست عشرة غزوة. وفي رواية لمسلم من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تسع عشرة غزوة قاتل منها في ثمان. وفي رواية عنه بهذا الإسناد: وبعث أربعاً وعشرين سرية، قاتل يوم بدر، وأُحد، والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، ومكة، وحنين. وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزا إحدى وعشرين غزوة، غزوت معه منها تسع عشرة غزوة، ولم أشهد بدراً، ولا أحداً منعني أبي، فلما قتل أبي يوم أُحد لم أتخلف عن غزاة غزاها. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزُّهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمان عشرة غزوة قال: وسمعته مرة يقول: أربعاً وعشرين غزوة، فلا أدري أكان ذلك وهماً، أو شيئاً سمعته بعد ذلك. وقال قتادة: غزا رسول الله تسع عشرة، قاتل في ثمان منها، وبعث من البعوث أربعاً وعشرين، فجميع غزواته وسراياه ثلاث وأربعون. وقد ذكر عروة بن الزبير، والزُّهري، وموسى بن عقبة، ومحمد إسحاق بن يسار، وغير واحد من أئمة هذا الشأن أنه عليه السلام قاتل يوم بدر في رمضان من سنة اثنتين، ثم في أُحد في شوال سنة ثلاث، ثم الخندق وبني قريظة في شوال أيضاً من سنة أربع وقيل: خمس، ثم في بني المصطلق بالمريسيع في شعبان سنة خمس، ثم في خيبر في صفر سنة سبع، ومنهم من يقول: سنة ست، والتحقيق أنه في أول سنة سبع، وآخر سنة ست، ثم قاتل أهل مكة في رمضان سنة ثمان، وقاتل هوازن وحاصر أهل الطائف في شوال وبعض ذي الحجة سنة ثمان، كما تقدم تفصيله، وحج سنة ثمان بالنَّاس عتاب بن أسيد نائب مكة، ثم في سنة تسع أبو بكر الصديق، ثم حج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمسلمين سنة عشر. (ج/ص:5 /236) وقال محمد ابن إسحاق: وكان جميع ما غزا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بنفسه الكريمة سبعاً وعشرين غزوة: غزوة وِدَّان، وهي غزوة الأبواء، ثمَّ غزوة بواط من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر العظمى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثمَّ غزوة بني سليم حتَّى بلغ الكدر، ثم غزوة السويق بطلب أبا سفيان بن حرب، ثمَّ غزوة غطفان - وهي غزوة ذي أمر-، ثمَّ غزوة نجران معدن بالحجاز، ثم غزوة أُحد، ثم حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرِّقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثمَّ غزوة بني قريظة، ثمَّ غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالاً فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطَّائف، ثمَّ غزوة تبوك. قال ابن إسحاق: قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطَّائف. قلت: وقد تقدَّم ذلك كله مبسوطاً في أماكنه بشواهده وأدلته، ولله الحمد. قال ابن إسحاق: وكانت بعوثه عليه السَّلام وسراياه ثمانياً وثلاثين من بين بعث وسرية، ثم شرع رحمه الله في ذكر تفصيل ذلك، وقد قدمنا ذلك كله، أو أكثره مفصلاً في مواضعه، ولله الحمد والمنة. ولنذكر ملخص ما ذكره ابن إسحاق: بعث عبيدة بن الحارث إلى أسفل ثنية المرة، ثم بعث حمزة بن عبد المطلب إلى السَّاحل من ناحية العيص، ومن النَّاس من يقدِّم هذا على بعث عبيدة كما تقدم، فالله أعلم، بعث سعد ابن أبي وقاص إلى الخرار، بعث عبد الله بن جحش إلى نخلة، بعث زيد بن حارثة إلى القردة، بعث محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف، بعث مرثد ابن أبي مرتد الغنوي إلى الرجيع، بعث المنذر بن عمرو إلى بئر معونة، بعث أبي عبيدة إلى ذي القصة، بعث عمر بن الخطَّاب إلى برية في أرض بني عامر، بعث علي إلى اليمن، بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى الكديد فأصاب بني الملوح أغار عليهم في اللَّيل، فقتل طائفة منهم فاستاق نعمهم، فجاء نفرهم في طلب النعم فلما اقتربوا حال بينهم واد من السيل، وأسروا في مسيرهم هذا الحارث بن مالك بن البرصاء، وقد حرر ابن إسحاق هذا هاهنا، وقد تقدم بيانه. بعث علي ابن أبي طالب إلى أرض فدك، بعث أبي العوجاء السَّلمي إلى بني سليم أصيب هو وأصحابه، بعث عكاشة إلى الغمرة، بعث أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن - وهو: ماء بنجد لبني أسد -، بعث محمد بن مسلمة إلى القرطاء من هوازن، بعث بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك، وبعثه أيضاً إلى ناحية حنين، بعث زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بني سليم، بعث زيد بن حارثة إلى جذام من أرض بني خشين. (ج /ص:5/237) قال ابن هشام: وهي من أرض حسمى، وكان سببها فيما ذكره ابن إسحاق وغيره: أنَّ دحية بن خليفة لما رجع من عند قيصر وقد أبلغه كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدعوه إلى الله فأعطاه من عنده تحفاً وهدايا، فلما بلغ وادياً في أرض بني جذام يقال له: شنار أغار عليه الهنيد بن عوص، وابنه عوص بن الهنيد الضليعيان - والضليع بطن من جذام - فأخذا ما معه، فنفر حيّ منهم قد أسلموا، فاستنقذوا ما كان أخذ لدحية فردوه عليه، فلما رجع دحية إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخبره الخبر، واستسقاه دم الهنيد، وابنه عوص، فبعث حينئذ زيد بن حارثة في جيش إليهم، فساروا إليهم من ناحية الأولاج، فأغار بالماقض من ناحية الحرة، فجمعوا ما وجدوا من مال وناس، وقتلوا الهنيد وابنه، ورجلين من بني الأحنف، ورجلاً من بني خصيب، فلمَّا احتاز زيد أموالهم وذراريهم اجتمع نفر منهم برفاعة بن زيد، وكان قد جاءه كتاب من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدعوهم إلى الله، فقرأه عليهم رفاعة، فاستجاب له طائفة منهم، ولم يكن زيد بن حارثة يعلم ذلك، فركبوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة في ثلاثة أيام، فأعطوه الكتاب فأمر بقراءته جهرة على النَّاس. ثم قال رسول الله: ((كيف أصنع بالقتلى؟)) ثلاث مرات. فقال رجل منهم - يقال له: أبو زيد ابن عمرو -: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيَّاً، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه. فبعث معهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علي ابن أبي طالب. فقال علي: إن زيداً لا يطيعني. فأعطاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيفه علامة، فسار معهم على جمل لهم، فلقوا زيداً وجيشه ومعهم الأموال والذراريّ بفيفاء الفحلتين، فسلمهم علي جميع ما كان أخذ لهم، لم يفقدوا منه شيئاً. بعث زيد بن حارثة أيضاً إلى بني فزارة بوادي القرى، فقتل طائفة من أصحابه وارتث هو من بين القتلى، فلما رجع آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتَّى يغزوهم أيضاً، فلما استبل من جراحه بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثانياً في جيش فقتلهم بوادي القرى، وأسر أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر، ومعها ابنة لها وعبد الله بن مسعدة، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر اليعمري فقتل أم قرفة، واستبقى ابنتها، وكانت من بيت شرف، يضرب بأم قرفة المثل في عزِّها، وكانت بنتها مع سلمة بن الأكوع، فاستوهبها منه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأعطاه إياها، فوهبها رسول الله لخاله حزن ابن أبي وهب، فولدت له ابنه عبد الرَّحمن. بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر مرتين، أحداهما: التي أصاب فيها اليسير بن رزام، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبعث رسول الله عبد الله بن رواحة في نفر، منهم عبد الله بن أنيس، فقدموا عليه فلم يزالوا يرغبونه ليقدموه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسار معهم، فلمَّا كانوا بالقرقرة على ستة أميال من خيبر ندم اليسير على مسيره، ففطن له عبد الله بن أنيس - وهو يريد السَّيف -فضربه بالسَّيف فأطن قدمه، وضربه اليُسير بمخرش من شوحط في رأسه فأمة، ومال كل رجل من المسلمين على صاحبه من اليهود فقتله، إلا رجلاً واحداً أفلت على قدميه، فلما قدم ابن أنيس تفل في رأسه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يقح جرحه، ولم يؤذه. قلت: وأظن البعث الآخر إلى خيبر لما بعثه عليه السَّلام خارصاً على نخيل خيبر، والله أعلم. (ج/ص:5/238) بعث عبد الله بن عتيك وأصحابه إلى خيبر فقتلوا أبا رافع اليهودي. بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح فقتله بعرنه. وقد روى ابن إسحاق قصته هاهنا مطولة، وقد تقدم ذكرها في سنة خمس، والله أعلم. بعث زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشَّام، فأصيبوا كما تقدم. بعث كعب بن عمير إلى ذات أطلاح من أرض الشَّام، فأصيبوا جميعاً أيضاً. بعث عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر إلى بني العنبر من تميم، فأغار عليهم فأصاب منهم أناساً، ثمَّ ركب وفدهم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أسراهم فأعتق بعضاً، وفدى بعضاً. بعث غالب بن عبد الله أيضاً إلى أرض بني مرة، فأصيب بها مرداس بن نهيك حليف لهم من الحرقة من جهينة، قتله أسامة بن زيد، ورجل من الأنصار أدركاه فلما شهرا السِّلاح قال: لا إله إلا الله، فلما رجعا لامهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أشد اللوم، فاعتذرا بأنه ما قال ذلك إلا تعوذا من القتل. فقال لأسامة: ((هلا شققت عن قلبه)) وجعل يقول لأسامة: ((من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة)). قال أسامة: فما زال يكررها حتَّى لوددت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك، وقد تقدم الحديث بذلك. بعث عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بني عذرة يستنفر العرب إلى الشام، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بلي، فلذلك بعث عمراً يستنفرهم ليكون أنجع فيهم، فلما وصل إلى ماء لهم - يقال له: السلسل - خافهم، فبعث يستمد رسول الله، فبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سرية فيهم أبو بكر، وعمر، وعليها أبو عبيدة بن الجراح، فلما انتهوا إليه تأمَّر عليهم كلهم عمرو وقال: إنما بعثتم مدداً لي، فلم يمانعه أبو عبيدة لأنه كان رجلاً سهلاً ليناً هيناً عند أمر الدنيا، فسلم له، وانقاد معه، فكان عمرو يصلي بهم كلهم، ولهذا لما رجع قال: يا رسول الله أي النَّاس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)). قال: فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)). بعث عبد الله ابن أبي حدرد إلى بطن أضم، وذلك قبل فتح مكة، وفيها قصة محلم بن جثامة، وقد تقدم مطولاً في سنة سبع. (ج/ص:5/239) بعث ابن أبي حدرد أيضاً إلى الغابة. بعث عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل. قال محمد بن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عطاء ابن أبي رباح قال: سمعت رجلاً من أهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتمّ. قال: فقال عبد الله: أخبرك إن شاء الله عن ذلك، تعلم أني كنت عاشر عشرة رهط من أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وحذيفة ابن اليمان، وأبو سعيد الخدريّ، وأنا، مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذ أقبل فتى من الأنصار فسلم على رسول الله ثم جلس فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: ((أحسنهم خلقاً)). قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: ((أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم استعداداً له قبل أن ينزل به، أولئك الأكياس)). ثم سكت الفتى، وأقبل علينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم - وأعوذ بالله أن تدركوهن - أنَّه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتَّى يغلبوا عليها إلا ظهر فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، ويجبروا فيما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم)). قال: ثم أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها، فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم نقضها، ثم عممه بها، وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحواً من ذلك. ثم قال: ((هكذا يا ابن عوف فاعتم، فإنه أحسن، وأعرف)). ثم أمر بلالاً أن يدفع إليه اللِّواء، فدفعه إليه، فحمد الله، وصلى على نفسه ثم قال: ((خذه يا بن عوف إغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيكم فيكم)). فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء. قال ابن هشام: فخرج إلى دومة الجندل. بعث أبي عبيدة بن الجراح، وكانوا قريباً من ثلاثمائة راكب إلى سيف البحر، وزودوه عليه السلام جراباً من تمر، و فيها قصة العنبر، وهي الحوت العظيم الذي دسره البحر، وأكلهم كلهم منه قريباً من شهر، حتَّى سمنوا، وتزودوا منه وشائق - أي شرائح - حتَّى رجعوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأطعموه منه، فأكل منه، كما تقدم بذلك الحديث. قال ابن هشام: ومما لم يذكر ابن إسحاق من البعوث - يعني: هاهنا - بعث عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان صخر بن حرب بعد مقتل خبيب بن عدي، وأصحابه، فكان من أمره ما قدمناه، وكان مع عمرو بن أمية جبار بن صخر، ولم يتفق لهما قتل أبي سفيان بل قتلا رجلاً غيره، وأنزلا خبيبا عن جذعه. (ج/ص:5/240) وبعث سالم بن عمير أحد البكائين، إلى أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف، وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن الصامت كما تقدم. فقال يرثيه ويذم قبحه الله الدخول في الدين: لَقدْ عشتُ دَهراً وَما أنْ أرَى * مِنَ النَّاسِ دَاراً وَلا مجمَعا أَبَرُّ عهوداً وأوفي لمنْ * يعاقدُ فيهم إذا ما دَعا منْ أَولادِ قيلةَ في جمعهِمْ * يهدِ الجبالَ ولم يخضعَا فصدَّعهُم راكبٌ جاءهُم * حلالٌ حرامٌ لشتى معَا فلو أن بالعزِّ صدقتُمُ * أو الملكُ تابعتُمُ تبَّعا فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من لي بهذا الخبيث)) فانتدب له سالم بن عمير هذا فقتله. فقالت أمامة المريدية في ذلك: تكذِّب دينَ اللهِ والمرءَ أَحمدَا * لعمرو الذي أَمنَاك بئس الذي يمْني حَباكَ حنيفٌ آخرُ الليل طعنةً * أَبا عِفك خُذها على كبر السِّن وبعث عمير بن عدي الخطمي لقتل العصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، كانت تهجو الإسلام وأهله، ولما قتل أبو عفك المذكور أظهرت النفاق وقالت في ذلك: بأَسَت بني مالك والنَّبيّتَ * وَعوف وباست بني الخزرجِ أَطعتمْ أَتاوي من غيركمْ * فلا منْ مُرادَ ولا مذحجِ ترجونَهَ بعد قتل الرؤوسِ * كما يرتجى وَرقَ المنضجِ ألا آنفُ يبتغي غِرةً * فيقطع من أملِ المرتجِي قال: فأجابها حسان بن ثابت فقال: بَنو وائلٍ وبنو واقفِ * وخطمةَ دونَ بني الخزرجِ متى ما دعتْ سفهاً ويحها * بُعولتَها والمنايا تجِي فهزَّت فتى ماجداً عرقُه * كريمُ المداخلِ والمخرجِ فضرَّجها من نجيعِ الدما * وبعيد الهدوِّ فلم يحرجِ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين بلغه ذلك: ((ألا آخذ لي من ابنة مروان)) فسمع ذلك عمير بن عدي، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها فقتلها، ثم أصبح فقال: يا رسول الله قتلتها فقال: ((نصرت الله ورسوله يا عمير)). قال يا رسول الله: هل علي من شأنها. قال: لا تنتطح فيها عنزان، فرجع عمير إلى قومه وهم يختلفون في قتلها، وكان له خمسة بنون فقال: أنا قتلتها فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، فذلك أول يوم عز الإسلام في بني خطمة، فأسلم منهم بشر كثير لما رأوا من عز الإسلام. (ج/ص:5/241) ثم ذكر البعث الذين أسروا ثمامة بن أثال الحنفي، وما كان من أمره في إسلامه، وقد تقدم ذلك في الأحاديث الصحاح، وذكر ابن هشام أنه هو الذي قال فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)) لما كان من قلة أكله بعد إسلامه، وأنه لما انفصل عن المدينة دخل مكة معتمراً وهو يلبي، فنهاه أهل مكة عن ذلك فأبى عليهم، وتوعدهم بقطع الميرة عنهم من اليمامة، فلما عاد إلى اليمامة منعهم الميرة حتَّى كتب إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأعادها إليهم. وقال بعض بني حنيفة: ومِنَّا الذي لبى بمكة محرماً * برغم أبي سفيانَ في الأشهرِ الحرمِ وبعث علقمة بن مجزز المدلجي ليأخذ بثأر أخيه وقاص بن مجزز يوم قتل بذي قرد، فاستأذن رسول الله ليرجع في آثار القوم فأذن له، وأمَّره على طائفة من النَّاس، فلما فقلوا أذن لطائفة منهم في التقدم، واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة، وكانت فيه دعابة، فاستوقد ناراً وأمرهم أن يدخلوها، فلما عزم بعضهم على الدخول قال: إنما كنت أضحك، فلما بلغ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه))، والحديث في هذا ذكره ابن هشام عن الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمرو ابن الحكم بن ثوبان، عن أبي سعيد الخدري. وبعث كرز بن جابر لقتل أولئك النفر الذين قدموا المدينة، وكانوا من قيس من بجيلة فاستوخموا المدينة واستوبؤها، فأمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يخرجوا إلى إبله فيشربوا من ألبانها، فلما صحوا قتلوا راعيها، وهو يسار مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذبحوه، وغرزوا الشوك في عينيه واستاقوا اللقاح، فبعث في آثارهم كرز بن جابر في نفر من الصحابة، فجاؤوا بأولئك النفر من بجيلة مرجعه عليه السلام من غزوة ذي قرد، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وهؤلاء النفر إن كانوا هم المذكورين في حديث أنس المتفق عليه، أن نفراً ثمانية من عكل أو عرينة قدموا المدينة الحديث. والظاهر أنهم هم فقد تقدم قصتهم مطولة، وإن كانوا غيرهم فها قد أوردنا عيون ما ذكره ابن هشام، والله أعلم. قال ابن هشام: وغزوة علي ابن أبي طالب اليمن التي غزاها مرتين. قال أبو عمرو المدني: بعث رسول الله علياً إلى اليمن، وخالداً في جند آخر، وقال: ((إن اجتمعتم فالأمير علي ابن أبي طالب)). قال: وقد ذكر ابن إسحاق بعث خالد، ولم يذكره في عدد البعوث والسرايا، فينبغي أن تكون العدة في قوله: تسعاً وثلاثين. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام، وأمرة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء، والداروم من أرض فلسطين، فتجهز النَّاس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون. (ج/ص:5/242) قال ابن هشام: وهو آخر بعث بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، ثنا مالك عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث بعثاً، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن النَّاس في إمارته، فقام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب النَّاس إليّ، وإن هذا لمن أحب النَّاس إلي بعده)). ورواه التِّرمذي من حديث مالك وقال: حديث صحيح حسن. وقد انتدب كثير من الكبار من المهاجرين الأولين والأنصار في جيشه، فكان من أكبرهم عمر بن الخطاب ومن قال: أن أبا بكر كان فيهم فقد غلط، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اشتد به المرض، وجيش أسامة مخيم بالجرف، وقد أمر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر أن يصلي بالنَّاس، كما سيأتي، فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول من رب العالمين، ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم فقد استثناه الشارع من بينهم بالنص عليه للإمامة في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، ثم لما توفي عليه الصلاة والسلام استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب فأذن له في المقام عند الصديق، ونفذ الصديق جيش أسامة، كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه، إن شاء الله. وكيف ابتدئ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمرضه الذي مات فيه قال الله تعالى: وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34]. وقال تعالى: وقال تعالى: ( وهذه الآية هي التي تلاها الصديق يوم وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما سمعها النَّاس كأنهم لم يسمعوها قبل. قال عمر بن الخطاب وابن عبَّاس: هو أجل رسول الله نعي إليه. وقال ابن عمر: نزلت أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول الله أنه الوداع، فخطب النَّاس خطبة أمرهم فيها ونهاهم - الخطبة المشهورة - كما تقدم. (ج/ص:5/243) وقال جابر: رأيت رسول الله يرمي الجمار فوقف وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا)). وقال عليه السلام لابنته فاطمة كما سيأتي: ((إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي)). وفي صحيح البخاري من حديث أبي بكر ابن عياش عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يعتكف في كل شهر رمضان عشرة أيام، فلما كان من العام الذي توفي فيه اعتكف عشرين يوماً. وكان يعرض عليه القرآن في كل رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه القرآن مرتين. وقال محمد بن إسحاق: رجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقيته، والمحرم، وصفراً، وبعث أسامة بن زيد، فبينا النَّاس على ذلك ابتدىء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته في ليال بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله من ذلك فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن جعفر عن عبيد بن جبر مولى الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: بعثني رسول الله من جوف الليل فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي)). فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح النَّاس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى)). ثم أقبل عليَّ فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)). قال: قلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة. قال: ((لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة)). ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبدئ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه. لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب، وإنما رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به. (ج /ص:5/244) وقال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا الحكم بن فضيل، ثنا يعلى بن عطاء عن عبيد بن جبر، عن أبي مويهبة قال: أمر رسول الله أن يصلي على أهل البقيع فصلى عليهم ثلاث مرات فلما كانت الثالثة قال: ((يا أبا مويهبة أسرج لي دابتي)). قال: فركب ومشيت حتَّى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكت الدابة فوقف - أو قال: قام عليهم - فقال: ((ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه النَّاس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، الآخرة أشدّ من الأولى، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه النَّاس)). ثم رجع فقال: ((يا أبا مويهبة إني أعطيت)) أو قال: ((خيرت بين مفاتيح ما يفتح على أمتي من بعدي والجنة، أو لقاء ربي)). قال: فقلت: بأبي أنت وأمي فاخترنا. قال: ((لأن ترد علي عقبها ما شاء الله، فاخترت لقاء ربي)). فما لبث بعد ذلك إلا سبعاً، أو ثمانياً حتَّى قبض. وقال عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رسول الله: ((نصرت بالرعب، وأعطيت الخزائن، وخيّرت بين أن أبقى حتَّى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل، فاخترت التعجيل)). قال البيهقي: وهذا مرسل، وهو شاهد لحديث أبي مويهبة. قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، عن عائشة قالت: رجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال: ((بل أنا والله يا عائشة وارأساه)). قالت: ثم قال: ((وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك، وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك)). قالت: قلت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونام به وجعه، وهو يدور على نسائه حتَّى استعزبه في بيت ميمونة فدعا نسائه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي، فأذنَّ له. قالت: فخرج رسول الله بين رجلين من أهله أحدهما: الفضل بن عبَّاس، ورجل آخر، عاصباً رأسه، تخطّ قدماه الأرض حتَّى دخل بيتي. قال عبيد الله: فحدثت به ابن عبَّاس. فقال: أتدري من الرجل الآخر؟ هو علي ابن أبي طالب، وهذا الحديث له شواهد ستأتي قريباً. (ج/ص:5/245) وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي فقلت: وارأساه !. فقال: ((بل أنا والله يا عائشة وارأساه !)). ثم قال: ((وما عليك لو متّ قبلي فوليت أمرك، وصليت عليك، وواريتك)). فقلت: والله إني لأحسب لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي من آخر النهار فأعرست بها. فضحك رسول الله ثم تمادى به وجعه، فاستعز به وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله فقال العبَّاس: إنا لنرى برسول الله ذات الجنب، فهلموا فلنلده فلدوه فأفاق رسول الله فقال: ( فقالوا: عمك العبَّاس تخوَّف أن يكون بك ذات الجنب. فقال رسول الله: ((إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطه علي، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العبَّاس)) فلدَّ أهل البيت كلهم حتَّى ميمونة وإنها لصائمة، وذلك بعين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذنَّ له، فخرج وهو بين العبَّاس، ورجل آخر - لم تسمه - تخط قدماه بالأرض إلى بيت عائشة. قال عبيد الله: قال ابن عبَّاس: الرجل الآخر علي ابن أبي طالب. قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير، ثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: لما ثقل رسول الله، واشتد به وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذنَّ له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه الأرض بين عبَّاس قال: ابن عبد المطلب، وبين رجل آخر قال: عبيد الله، فأخبرت عبد الله - يعني: ابن عبَّاس - بالذي قالت عائشة. فقال لي عبد الله بن عبَّاس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمِّ عائشة؟ قال: قلت: لا! قال ابن عبَّاس: هو علي، فكانت عائشة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم تحدِّث أن رسول الله لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال: هريقوا عليَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى النَّاس، فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتَّى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن قالت عائشة: ثم خرج إلى النَّاس فصلى لهم، وخطبهم. وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزُّهري به. وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، ثنا سليمان بن بلال قال هشام بن عروة: أخبرني أبي عن عائشة، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غداً، أين أنا غداً، يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة، حتَّى مات عندها. قالت عائشة رضي الله عنها: فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، وقبضه الله وإن رأسه لبين سحري ونحري، وخالط ريقه ريقي، قالت: ودخل عبد الرحمن ابن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه، فقضمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاستن به، وهو مسند إلى صدري. انفرد به البخاري من هذا الوجه. (ج /ص:5/246) وقال البخاري: أخبرنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: مات النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنه لبين حاقنتي، وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال البخاري: حدثنا حيان، أنبأنا عبد الله، أنبأنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنه. ورواه مسلم من حديث ابن وهب عن يونس بن يزيد الإيلي، عن الزُّهري به، والفلاس ومسلم عن محمد بن حاتم كلهم. وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: اجتمع نساء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عنده لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها فقال: ((مرحباً بابنتي)) فأقعدها عن يمينه، أو شماله، ثم سارَّها بشيء فبكت، ثم سارَّها فضحكت. فقلت لها: خصك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالسرار وأنت تبكين!فلما أن قامت قلت: أخبريني ما سارَّك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما توفي قلت لها: أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتيني. قالت: أما الآن فنعم! قالت: سارني في الأول قال لي: ((إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي؛ فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك)) فبكيت. ثم سارَّني فقال: ((أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) فضحكت، وله طرق عن عائشة. وقد روى البخاري عن علي بن عبد الله، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة قالت: لددنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه، فجعل يشير إلينا ((أن لا تلدوني)). فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلما أفاق، قال: ((ألم أنهكم أن لا تلدوني؟)) قلنا: كراهية المريض للدواء. فقال: ((لا يبقى أحد في البيت إلا لد، وأنا أنظر إلا العبَّاس، فإنه لم يشهدكم)). قال البخاري: ورواه ابن أبي الزناد عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال البخاري: وقال يونس عن الزُّهري قال عروة: قالت عائشة: كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)). هكذا ذكره البخاري معلقاً. (ج /ص:5/247) وقد أسنده الحافظ البيهقي: عن الحاكم، عن أبي بكر ابن محمد بن أحمد بن يحيى الأشقر، عن يوسف بن موسى، عن أحمد بن صالح، عن عنبسة، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزُّهري به. وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: لئن أحلف تسعاً أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قتل قتلا، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبياً، واتخذه شهيداً. وقال البخاري: ثنا إسحاق بن بشر، حدثنا شعيب عن أبي حمزة، حدثني أبي عن الزُّهري قال: أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري - وكان كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تيب عليهم -: أن عبد الله بن عبَّاس، أخبره: أن علي ابن أبي طالب خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال النَّاس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً. فأخذ بيده عبَّاس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فمنعناها لا يعطيناها النَّاس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. انفرد به البخاري. وقال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا سفيان عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عبَّاس: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعه فقال: ((ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع -)). فقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه، فذهبوا يردون عنه. فقال: ((دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)). فأوصاهم بثلاث. قال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم)). وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها. ورواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به. ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس قال: لما حضر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفي البيت رجال فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده أبداً)). فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف. قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قوموا)). (ج/ص:5/248) قال عبيد الله، قال ابن عبَّاس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق بنحوه. وقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث معمر ويونس عن الزُّهري به. وهذا الحديث مما قد توَّهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم، وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه، وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات. وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار، وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه. فإنه قد قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، ثنا نافع عن ابن عمرو، ثنا ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: لما كان وجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي قبض فيه قال: ((إدعو لي أبا بكر وابنه لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمناه متمن)). ثم قال: ((يأبى الله ذلك والمؤمنون مرتين)). قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون. انفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا عبد الرحمن ابن أبي بكر القرشي عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله قال لعبد الرحمن ابن أبي بكر: ((ائتني بكتف أو لوح حتَّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه أحد)). فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر. انفرد به أحمد من هذا الوجه أيضاً. وروى البخاري عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال رسول الله: ((لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى متمنون)). فقال: يأبى الله - أو يدفع المؤمنون أو يدفع الله - ويأبى المؤمنون. وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأمرها أن ترجع إليه فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت -. قال: ((إن لم تجديني فأت أبا بكر)). والظاهر والله أعلم أنها إنما قالت ذلك له عليه السلام في مرضه الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه. وقد خطب عليه الصلاة والسلام في يوم الخميس قبل أن يقبض عليه السلام بخمس أيام خطبة عظيمة بين فيها فضل الصديق من سائر الصحابة، مع ما كان قد نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين، كما سيأتي بيانه مع حضورهم كلهم. ولعل خطبته هذه كانت عوضاً عما أراد أن يكتبه في الكتاب، وقد اغتسل عليه السلام بين يدي هذه الخطبة الكريمة، فصبوا عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، وهذا من باب الاستشفاء بالسبع، كما وردت بها الأحاديث في غير هذا الموضع، والمقصود أنه عليه السلام اغتسل ثم خرج فصلَّى بالنَّاس، ثم خطبهم كما تقدَّم في حديث عائشة رضي الله عنها. (ج/ص:5/249) ذكر الأحاديث الواردة في ذلك. قال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، عن أيوب بن بشير أن رسول الله قال في مرضه: ((أفيضوا عليَّ من سبع قرب من سبع آبار شتى، حتَّى أخرج فأعهد إلى النَّاس)). ففعلوا، فخرج فجلس على المنبر فكان أول ما ذكر بعد حمد الله والثناء عليه ذكر أصحاب أُحد، فاستغفر لهم ودعا لهم. ثم قال: ((يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون، والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم عيبتي التي أوتيت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا من مسيئهم)). ثم قال عليه السلام: ((أيها النَّاس إن عبداً من عباد الله قد خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله)). ففهمها أبو بكر رضي الله عنه من بين النَّاس فبكى. وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((على رسلك يا أبا بكر!انظروا إلى هذه الأبواب الشارعة في المسجد فسدوها، إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحداً عندي أفضل يداً في الصحبة منه)). هذا مرسل له شواهد كثيرة. وقال الواقدي: حدثني فروة بن زبيد بن طوسا عن عائشة بنت سعد، عن أم ذرة، عن أم سلمة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: خرج رسول الله عاصباً رأسه بخرقة، فلما استوى على المنبر تحدَّق النَّاس بالمنبر، واستكفوا. فقال: ((والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة)). ثم تشهَّد فلما قضى تشهده كان أول ما تكلَّم به، أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأُحد. ثم قال: ((إن عبداً من عباد الله خيِّر بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله)). فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه وقال: بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا. فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعل رسول الله يقول له: ((على رسلك)). وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، ثنا فليح عن سالم أبي النضر، عن بشر بن سعيد، عن أبي سعيد قال: خطب رسول الله النَّاس فقال: ((إنَّ الله خيِّر عبداً بين الدنيا، وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله)). قال: فبكى أبو بكر. قال: فتعجَّبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد، فكان رسول الله هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله: ((إن أمنَّ النَّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام ومودته لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)). وهكذا رواه البخاري من حديث أبي عامر العقدي به. (ج/ص:5/250) ثم رواه الإمام أحمد عن يونس، عن فليح، عن سالم أبي النضر، عن عبيد بن حنين، وبشر بن سعيد عن أبي سعيد به. وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث فليح ومالك بن أنس عن سالم، عن بشر بن سعيد وعبيد بن حنين، كلاهما عن أبي سعيد بنحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، ثنا هشام، ثنا أبو عوانة عن عبد الملك، عن ابن أبي المعلى، عن أبيه أن رسول الله خطب يوماً فقال: ((إن رجلاً خيَّره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش فيها، يأكل من الدنيا ما شاء أن يأكل منها، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه)). فبكى أبو بكر، فقال أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ألا تعجبون من هذا الشيخ أن ذكر رسول الله رجلاً صالحاً خيَّره ربه بين البقاء في الدنيا، وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه. فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله. فقال أبو بكر: بل نفديك بأموالنا وأبنائنا. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من النَّاس أحد أمنّ علينا في صحبته وذات يده من ابن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة، ولكن ود وإخاء وإيمان، ولكن ود وإخاء وإيمان مرتين، وإن صاحبكم خليل الله عز وجل)). تفرَّد به أحمد. قالوا: وصوابه أبو سعيد بن المعلى فالله أعلم. وقد روى الحافظ البيهقي من طريق إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه ثنا زكريا بن عدي، ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد ابن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث حدثني جندب أنه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يتوفى بخمس وهو يقول: ((قد كان لي منكم أخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، وإن ربي اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، وإن قوماً ممن كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم، وصلحائهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)). وقد رواه مسلم في صحيحه عن إسحاق بن راهويه بنحوه. وهذا اليوم الذي كان قبل وفاته عليه السلام بخمس أيام هو يوم الخميس الذي ذكره ابن عبَّاس فيما تقدَّم. وقد روينا هذه الخطبة من طريق ابن عبَّاس. قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب - هو ابن عوانة الإسفراييني - قال: ثنا محمد ابن أبي بكر، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي سمعت يعلى بن حكيم يحدِّث عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال: خرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: ((إنه ليس من النَّاس أحد أمنّ عليَّ بنفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متخذاً من النَّاس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر)). رواه البخاري عن عبيد الله بن محمد الجعفي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به. (ج/ص:5/251) وفي قوله عليه السلام: ((سدوا عني كل خوخة - يعني: الأبواب الصغار - إلى المسجد غير خوخة أبي بكر)). إشارة إلى الخلافة أي: ليخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين. وقد رواه البخاري أيضاً من حديث عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة بن الغسيل عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله خرج في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بعصابة دسماء، ملتحفاً بملحفة على منكبيه، فجلس على المنبر، فذكر الخطبة، وذكر فيها الوصاة بالأنصار إلى أن قال: فكان آخر مجلس جلس فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى قبض - يعني: آخر خطبة خطبها عليه السلام. وقد روي من وجه آخر عن ابن عبَّاس بإسناد غريب، ولفظ غريب. فقال الحافظ البيهقي: أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا ابن أبي قماش - وهو محمد بن عيسى - ثنا موسى بن إسماعيل أبو عمران الجبلي، ثنا معن بن عيسى القزاز عن الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن أناس الليثي، عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عبَّاس، عن الفضل بن عبَّاس قال: أتاني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يوعك وعكاً شديداً، وقد عصب رأسه فقال: ((خذ بيدي يا فضل)) قال: فأخذت بيده حتَّى قعد على المنبر. ثم قال: ((ناد في النَّاس يا فضل)). فناديت: الصلاة جامعة. قال: فاجتمعوا فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطيباً فقال: ((أما بعد أيها النَّاس، إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم ولن تروني في هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عني حتَّى أقوِّمه فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد، ولا يقولن قائل أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إليَّ من أخذ حقاً إن كان له عليَّ أو حللني، فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة)). قال: فقام منهم رجل فقال: يا رسول الله لي عندك ثلاثة دراهم. فقال: ((أما أنا فلا أكذب قائلاً، ولا مستحلفه علي يمين فيم كانت لك عندي؟)) قال: أما تذكر أنه مرَّ بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم. قال: ((أعطه يا فضل)). قال: وأمر به فجلس. قال: ثم عاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مقالته الأولى ثم قال: ((يا أيها النَّاس من عنده من الغلول شيء فليرده)). فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله. قال: ((فلم غللتها؟)) قال: كنت إليها محتاجاً. قال: ((خذها منه يا فضل)). ثم عاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مقالته الأولى وقال: ((يا أيها النَّاس من أحس من نفسه شيئاً فليقم أدعو الله له)). فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لشئوم. فقال عمر بن الخطاب: ويحك أيها الرجل لقد سترك الله لو سترت على نفسك. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مه يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقاً، وإيماناً، وأذهب عنه الشؤم إذا شاء)). ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عمر معي، وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر)). وفي إسناده ومتنه غرابة شديدة. (ج/ص:5/252) قال الإمام أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: وقال ابن شهاب الزُّهري: حدثني عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه، عن عبد الله بن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعا بلال للصلاة فقال: ((مروا من يصلي بالنَّاس)). قال: فخرجت فإذا عمر في النَّاس، وكان أبو بكر غائباً. فقلت: قم يا عمر فصل بالنَّاس. قال: فقام فلما كبَّر عمر سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً. فقال رسول الله: ((فأين أبو بكر، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون)). قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالنَّاس. وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة، ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرني بذلك، ولولا ذلك ما صليت. قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة. وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق، حدثني الزُّهري. ورواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن زمعة فذكره. وقال أبو داود: ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، حدثني موسى بن يعقوب عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر قال: لما سمع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صوت عمر. قال ابن زمعة: خرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى أطلع رأسه من حجرته، ثم قال: ((لا لا، لا يصلي للناس إلا ابن أبي قحافة)) يقول ذلك مغضباً. وقال البخاري: ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش عن إبراهيم، قال الأسود: كنا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والمواظبة لها. قالت: لما مرض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذَّن بلال. فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس)). فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالنَّاس، وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس)). فخرج أبو بكر فوجد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخَّر، فأومأ إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن مكانك، ثم أتى به حتَّى جلس إلى جنبه. (ج /ص:5/253) قيل للأعمش: فكان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والنَّاس يصلون بصلاة أبي بكر. فقال برأسه: نعم! ثم قال البخاري: رواه أبو داود عن شعبة بعضه، وزاد أبو معاوية عن الأعمش جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائماً. وقد رواه البخاري في غيرما موضع من كتابه، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق متعددة عن الأعمش به. منها ما رواه البخاري عن قتيبة. ومسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة. ويحيى بن يحيى عن أبي معاوية به. وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال في مرضه: ((مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس)). قال ابن شهاب: فأخبرني عبيد الله بن عبد الله عن عائشة أنها قالت: لقد عاودت رسول الله في ذلك، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم النَّاس بأبي بكر، وإلا أني علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم النَّاس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر إلى غيره. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن الزُّهري قال: وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيتي قال: ((مُروا أبا بكر فليصل بالنَّاس)). قالت: قلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر. قالت: والله!ما بي إلا كراهية أن يتشاءم النَّاس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. قالت: فراجعته مرتين، أو ثلاثاً. فقال: ((ليصل بالنَّاس أبو بكر، فإنكن صواحب يوسف)). وفي الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن أبيه قال: مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالنَّاس)). فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع يصلي بالنَّاس. قال: فقال: ((مروا أبا بكر يصل بالنَّاس، فإنكن صواحب يوسف)). قال: فصلى أبو بكر حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، أنبأنا زائدة بن قدامة عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فقالت: بلى!ثقل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعه. فقال: ((أصلى النَّاس؟)) قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. فقال: ((صبوا إلي ماء في المخضب)) ففعلنا قالت: فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى النَّاس؟)) قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى النَّاس؟)) قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى النَّاس؟)) قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والنَّاس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أبي بكر بأن يصلي بالنَّاس، وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً فقال: يا عمر صلِّ بالنَّاس. فقال: أنت أحق بذلك. (ج /ص:5/254) فصلى بهم تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجد خفة، فخرج بين رجلين أحدهما: العبَّاس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخَّر، فأومأ إليه أن لا يتأخَّر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائماً، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي قاعداً. قال عبيد الله: فدخلت على ابن عبَّاس فقلت: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله؟ قال: هات، فحدَّثته فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: سمَّت لك الرجل الذي كان مع العبَّاس؟ قلت: لا. قال: هو علي. وقد رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أحمد بن يونس، عن زائدة به. وفي رواية: فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو قائم، والنَّاس يصلون بصلاة أبي بكر، ورسول الله قاعد. قال البيهقي: ففي هذا أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم تقدم في هذه الصلاة، وعلَّق أبو بكر صلاته بصلاته. قال: وكذلك رواه الأسود وعروة عن عائشة. وكذلك رواه الأرقم بن شرحبيل عن ابن عبَّاس يعني: بذلك - ما رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، حدثني أبي عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عبَّاس قال: لما مرض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمر أبا بكر أن يصلي بالنَّاس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحسَّ به أبو بكر أراد إن ينكص، فأومأ إليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبوبكر رضي الله عنه. ثم رواه أيضاً عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم، عن ابن عبَّاس بأطول من هذا. وقال وكيع مرة: فكان أبو بكر يأتم بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم والنَّاس يأتمون بأبي بكر. ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل، عن ابن عبَّاس بنحوه. وقد قال الإمام أحمد: ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعبة عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خلف أبا بكر قاعداً في مرضه الذي مات فيه. وقد رواه التِّرمذي، والنسائي من حديث شعبة. وقال التِّرمذي: حسن صحيح. وقال أحمد: ثنا بكر بن عيسى سمعت شعبة بن الحجاج عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة أن أبا بكر صلى بالنَّاس ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصفّ. وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب بن سفيان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى خلف أبا بكر. وهذا إسناد جيد، ولم يخرِّجوه. قال البيهقي: وكذلك رواه حميد عن أنس بن مالك، ويونس عن الحسن مرسلاً، ثم أسند ذلك من طريق هشيم، أخبرنا يونس عن الحسن قال هشيم: وأنبانا حميد عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرج وأبو بكر يصلي بالنَّاس فجلس إلى جنبه، وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته. (ج/ص:5/255) قال البيهقي: وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن شريك، أنبأنا ابن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد أنه سمع أنساً يقول: آخر صلاة صلاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع القوم، في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر. قلت: وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح، ولم يخرّجوه، وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع النَّاس صلوات الله وسلامه عليه. وقد ذكر البيهقي من طريق سليمان بن بلال، ويحيى بن أيوب عن حميد، عن أنس أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالفاً بين طرفيه، فلما أراد إن يقوم، قال: ((أدع لي أسامه بن زيد)) فجاء، فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها. قال البيهقي: ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأنها آخر صلاة صلاها، لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الإثنين، وهذا الذي قاله البيهقي، أخذه مسلماً من مغازي موسى بن عقبة فإنه كذلك ذكر. وكذا روى أبو الأسود عن عروة، وذلك ضعيف، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم، كما تقدم تقييده في الرواية الأخرى، والحديث واحد فيحمل مطلقه على مقيده، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الإثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلها مع الجماعة، بل في بيته، لما به من الضعف صلوات الله وسلامه عليه والدليل على ذلك ما قال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزُّهري، أخبرني أنس بن مالك وكان تبع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وخدمه وصحبه، أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي توفي فيه، حتَّى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف تبسَّم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا صلَّى الله عليه وسلَّم أن أتموا صلاتكم، وأرخى على الستر، وتوفي من يومه صلَّى الله عليه وسلَّم. وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، وصبيح بن كيسان، ومعمر عن الزُّهري، عن أنس. ثم قال البخاري: ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال: لم يخرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثاً، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله بالحجاب، فرفعه فلما وضح وجه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين وضح لنا، فأومأ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بيده إلى أبي بكر أن يتقدَّم، وأرخى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحجاب فلم يقدر عليه حتَّى مات صلَّى الله عليه وسلَّم. (ج/ص:5/256) ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به. فهذا أوضح دليل على أنه عليه السلام لم يصل يوم الإثنين صلاة الصبح مع النَّاس، وأنه كان قد انقطع عنهم، لم يخرج إليهم ثلاثاً. قلنا: فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر كما جاء مصرحاً به في حديث عائشة المتقدم، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت، ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن مغازي موسى بن عقبة، وهو ضعيف، ولما قدمنا من خطبته بعدها، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل. وقال الزُّهري عن أبي بكر ابن أبي سبرة، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة. وقال غيره: عشرين صلاة، فالله أعلم. ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الإثنين، فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به، ولسان حالهم يقول: كما قال بعضهم: وَكنتُ أرَى كالموتِ منْ بينِ ساعةٍ * فكيفَ ببينٍ كانَ موعدهُ الحشرُ والعجب أن الحافظ البيهقي أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين، ثم قال ما حاصله: فلعله عليه السلام احتجب عنهم في أول ركعة، ثم خرج في الركعة الثانية، فصلى خلف أبي بكر كما قال عروة وموسى بن عقبة، وخفي ذلك على أنس بن مالك، أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره. وهذا الذي ذكره أيضاً بعيد جداً، لأن أنساً قال: فلم يقدر عليه حتَّى مات، وفي رواية: قال: فكان ذلك آخر العهد به، وقول الصحابي مقدم على قول التابعي، والله أعلم. والمقصود: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قدم أبا بكر الصديق إماماً للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية. قال الشيخ أبو الحسن الأشعريّ: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنَّاً، فإن كانوا في السِّن سواء فأقدمهم مسلماً)). قلت: من كلام الأشعريّ رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه وصلاة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم خلفه في بعض الصلوات، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة، لا ينافي ما روى في الصحيح أن أبا بكر إئتم به عليه السلام لأن ذلك في صلاة أخرى كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة رحمهم الله عز وجل. فائدة: استدل مالك والشافعي، وجماعة من العلماء ومنهم البخاري، بصلاته عليه السلام قاعداً وأبو بكر مقتدياً به قائماً والنَّاس بأبي بكر، على نسخ قوله عليه السلام في الحديث المتفق عليه: حين صلى ببعض أصحابه قاعداً. وقد وقع عن فرس فجحش شقه، فصلوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: ((كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والرُّوم، يقومون على عظمائهم وهم جلوس)) وقال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)) قالوا: ثم إنه عليه السلام أمَّهم قاعداً وهم قيام في مرض الموت، فدلَّ على نسخ ما تقدم، والله أعلم. وقد تنوَّعت مسالك النَّاس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة، موضع ذكرها (كتاب الأحكام الكبير) إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان. وملخص ذلك: أن من النَّاس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم، وإنما استمر أبو بكر قائماً لأجل التبليغ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم ومن النَّاس من قال: بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر، كما صرَّح به بعض الرواة كما تقدم، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم لا يبادره بل يقتدي به، فكأنه عليه السلام صار إمام الإمام، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر وهو قائم؛ ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام، ولأنه يبلغهم عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحركات، والسكنات، والانتقالات، والله أعلم. (ج /ص:5/257) ومن النَّاس من قال: فرق بين أن يبتدأ الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائماً، وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال وبين أن يبتدي الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس، للحديث المتقدم، والله أعلم. ومن النَّاس من قال: هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام، والجلوس، وأن كلاً منهما سائغ جائز، الجلوس لما تقدم، والقيام للفعل المتأخر، والله أعلم.
|